صحبة الصالحين وأثرها - خطبة مشكولة ومؤثرة
صُحْبَةُ الصَّالِحِينَ، وَمْنَفَعَتُهَا فِي الدُّنْيَا وَالدِّينِ
بسم الله الرحمان الرحيم
عناصر الخطبة
- اَلصُّحْبَةُ الصَّالِحَةُ وَأَهَمِّيَّتُهَا
- دَعْوَةُ الْإِسْلَامِ إِلَى صُحْبَةِ الصَّالِحَينَ
- مَنْفَعَةُ صُحْبَةِ الصَّالِحِينَ
اَلْخُطْبَةُ الْأَولَى:
اَلْحَمْدُ لِلَّهِ وَاسِعِ الْفَضْلِ وَالْإِنْعَامِ، خَلَقَ الْإِنْسَانَ اجْتِمَاعِيًّا عَلَى الدَّوَامِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَّا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ اَلْغَنِيُّ عَنِ كُلِّ الْأَنَامِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ جَعَلَ صُحْبَةَ الصَّالِحِينَ مِنْ خِصَالِ الْإِسْلَامِ، صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ الْكِرَامِ، وَمَنِ اِقْتَفَى أَثَرَهُمْ وَسَارَ عَلَى نَهْجِهِمْ مَا تَعَاقَبَتِ اللَّيَالِي وَالْأَيَّامُ.
أَمَّا بَعْدُ فَيَا أَيُّهَا الْإِخْوَةُ الْمُسْلِمُونَ:
لَقَدِ انْطَلَقَ الْمَوْسِمُ الدِّرَاسِيُّ الْجَدِيدُ، وَاتَّخَذَ أَوْلَادُنَا الْمُتَمَدْرِسُونَ مَوَاقِعَهُمَ كُلٌّ حَسْبَ مُسْتَوَاهُ، وَبَدَأَتِ الْأُطُرُ الْإِدَارِيَّةُ وَالتَّرْبَوِيَّةُ الْعَمَلَ كُلٌّ حَسْبَ مَا تَوَلَّاهُ.
وَلَكِنَّ مَسْؤُولِيَّتَنَا - مَعَاشِرَ الْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ - لَمْ تَنْتَهِ هَا هُنَا، بَلْ هَذِهِ هِيَ الْحَلْقَةُ الْأُولَى فِي مُسَلْسَلٍ طَوِيلٍ مِنَ الْمُوَاكَبَةِ وَالْمُتَابَعَةِ، لِمَدَى تَطَوُّرِ مُسْتَوَى تَحْصِيلِهِمُ الْعِلْمِيِّ، وَالْمُرَاقَبَةِ لِمَنْ يُصَاحِبُهُمْ أَثْنَاءَ الدِّرَاسَةِ مِنَ الْأَصْدِقَاءِ.
لِذَلِكُمْ اِخْتَرْتُ أَنْ نُّخَصِّصَ بَعْضًا مِنْ خُطَبِنَا لِلْحَدِيثِ حَوْلَ مَوْضُوعِ الصُّحْبَةِ، لَعَلَّهُ يَكُونُ نَافِعاً لِلتَّلَامِيذِ وَطَلَبَةِ الْعِلْمِ خَاصَّةً، وَلِلْمُسْلِمِينَ وَالمُسْلِمَاتِ عَامَّةً.
وَعُنْوَانُ خُطْبَتِنَا لِهَذَا الْيَوْمِ الْمُبَارَكِ السَّعِيدِ – بِحَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى - هُوَ: صُحْبَةُ الصَّالِحِينَ، وَمَنَفَعَتُهَا فِي الدُّنْيَا وَالدِّينِ، وَسَيَنْتَظِمُ كَلَامُنَا حَــوْلَ هَذَا الْعُنْوَانِ فِي ثَلَاثَــةِ عَنَاصِرَ:
الْعُنْصُرُ الْأَوَّلُ: اَلصُّحْبَةُ الصَّالِحَةُ وَأَهَمِّيَّتُهَا
فَـالصُّحْبَةُ فِي اللُّغَةِ هِيَ: الْمُعَاشَرَةُ وَالْمُرَافَقَةُ، وَالصَّاحِبُ هُوَ: الْمُعَاشِرُ وَالْمُرَافِقُ، وَالصُّحْبَةُ الصَّالِحَةُ فِي الِاصْطِلَاحِ الشَّرْعِيِّ هِيَ: عَلَاقَةٌ وَثِيقَةٌ بَيْنَ شَخْصَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ، تَتَمَيَّزُ بِأَسْمَى مَشَاعِرِ الْمَحَبَّةِ وَالِاهْتِمَامِ وَالنُّصْحِ وَالِاحْتِرَامِ الْمُتَبَادَلِ.
وَلِلصُّحْبَةِ الصَّالِحَةِ أَهَمِّيَّةٌ كُبْرَى فِي حَيَاتِنَا، لِمَا لَهَا مِنْ تَأْثِيرٍ إِيجَابِيٍّ عَلَى سُلُوكِيَّاتِنَا، قَالَ ابْنُ خَلْدُونٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي مُقَدِّمَتِهِ: إِنَّ الْإِنْسَانَ اجْتِمَاعِيٌّ بِطَبْعِهِ. يَعْنِي: أَنَّ الِانْسَانَ فَطَرَهُ اللَّهُ عَلَى مَحَبَّةِ الْعَيْشِ مَعَ الْجَمَاعَةِ وَ التَّعَامُلِ مَعَ الْآخَرِينَ، وَالِاسْتِئْنَاسِ بِمَنْ حَوْلَهُ مِنَ النَّاسِ وَالتَّأَثُّرِ بِهِمْ، وَبِذَلِكَ تَتَكَوَّنُ مَعَالِمُ شَخْصِيَّتِهِ، فَإِنْ صَاحَبَ الْأَخْيَارَ اِكْتَسَبَ مِنْهُمُ الْخَيْرَ الَّذِي يَنْتَفِعُ بِهِ وَيَنْفَعُ بِهِ غَيْرَهُ، وَإِنْ صَاحَبَ الْأَشْرَارَ اِكْتَسَبَ مِنْهُمُ الشَّرَّ الَّذِي يَضُرُّ بِهِ نَفْسَهُ وَيَضُرُّ بِهِ غَيْرَهُ.
رَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رَضِي اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِنَّمَا مَثَلُ الْجَلِيسِ الصَّالِحِ وَجَلِيسِ السُّوءِ، كَحَامِلِ الْمِسْكِ وَنَافِخِ الْكِيرِ، فَحَامِلُ الْمِسْكِ إِمَّا أَنْ يُحْذِيَكَ – أَيْ: يُعْطِيَكَ -، وَإِمَّا أَنْ تَبْتَاعَ مِنْهُ، وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ مِنْهُ رِيحًا طَيِّبَةً، وَنَافِخُ الْكِيرِ إِمَّا أَنْ يُحْرِقَ ثِيَابَكَ، وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ مِنْهُ رِيحًا مُنْتِنَةً.
وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِـذِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: اَلرَّجُلُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ، فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلْ. فَقَوْلُهُ عَلَيْهِ صلى الله عليه وسلم (عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ) يَعْنِي: عَلَى سِيرَةِ صَاحِبِهِ، فَإِنْ صَاحَبَ الْأَخْيَارَ أَحَبَّ الْخَيْرَ وَعَمِلَ بِهِ، وَإِنْ صَاحَبَ الْأَشْرَارَ أَحَبَّ الشَّرَّ وَعَمِلَ بِهِ، وَقَدْ قِيلَ فِي الْحِكْمَةِ الْمَشْهُورَةِ: اَلصَّاحِبُ سَاحِبٌ، فَاخْتَرْ مِنْ تُصَاحِبُ.
الْعُنْصُرُ الثَّانِي: دَعْوَةُ الْإِسْلَامِ إِلَى صُحْبَةِ الصَّالِحَينَ
لَقَدْ أَوْلَى دِينُ الْإِسْلَامِ لِلصُّحْبَةِ أَهَمِّيَّةً كُبْرَى، فَدَعَانَا إِلَى اخْتِيَارِ الْأَصْحَابِ الْأَبْرَارِ، وَمُجَالَسَةِ الصَّالِحِينَ الْأَخْيَارِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى مُخَاطِبًا نَبِيَّهُ الْمُخْتَارَ: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا).
وَرَوَى أَبُو يَعْلَى عَنْ عَبْدِ اللَّهِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ: قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ جُلَسَائِنَا خَيْرٌ؟. قَالَ: "مَنْ ذَكَّرَكُمُ اللَّهَ رُؤْيَتُهُ، وَزَادَ فِي عِلْمِكُمْ مَنْطِقُهُ، وَذَكَّرَكُمْ بِالْآخِرَةِ عَمَلُهُ".
وَقَالَ سَيِّدُنَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: "مَا أُعْطِيَ الْعَبْدُ بَعْدَ الْإِسْلَامِ نِعْمَةً خَيْرًا مِنْ أَخٍ صَالِحٍ، فَإِذَا وَجَدَ أَحَدُكُمْ وُدًّا مِنْ أَخِيهِ فَلْيَتَمَسَّكْ بِهِ".
وَقَالَ سَيِّدُنَا عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: عَلَيْكُمْ بِالْإِخْوَانِ، فَإِنَّهُمْ عُدَّةٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، أَلَا تَسْمَعُ إِلَى قَوْلِ أَهْلِ النَّارِ: فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ. وَقَالَ ابْنُ عَطَاءِ اللَّهِ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الْحِكَمِ: لَا تَصْحَبْ مَنْ لَّا يُنْهِضُكَ حَالُهُ، وَلَا يَدُلُّكَ عَلَى اللَّهِ مَقَالُهُ. وَقَالَ مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ رَحِمَهُ اللَّهُ: إِنَّكَ أَنْ تَنْقُلَ الْحِجَارَةَ مَعَ الْأَبْرَارِ، خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَأْكُلَ الْخَبِيصَ - يَعْنِي الْحَلْوَى - مَعَ الْفُجَّارِ.
وَلِلَّهِ دَرُّ الشَّاعِرِ الْقَائِلِ:
عَنِ الْمَرْءِ لَاَ تَسْأَلْ وَسَلْ عَنْ قَرِينِهِ
فَكُـلُّ قَرِيـنٍ بِالْـمُقَـارَنِ يَقْتَـدِي
إِذَا كُنْتَ فِي قَوْمٍ فَصَاحِبْ خِيَارَهُمْ
وَلَا تَصْحَبِ الْأَرْدَى فَتَرْدَى مَعَ الرَّدِي
نَفَعَنِي اللَّـهُ وَإِيَّاكُمْ بِكِتَابِهِ الْـمُبِينِ، وَبِسُنَّةِ نَبيِّهِ الْمُصْطَفَى الْكَرِيمِ، وَأَجَارَنِي وَإِيَّاكُمْ مِنْ عَذَابِهِ الْمُهِينِ، وَجَعَلَنِـي وَإِيَّاكُمْ مِنَ الذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ آمِينَ، وَآخِرُ دَعْوَانَا أَنِ الْـحَمْدُ لِلَّـهِ رَبِّ الْعَالَمينَ.
اَلْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
اَلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَّا إِلَهَ إِلَّا اللَّـهُ وَليُّ الصَّالِحِينَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، سَيِّدُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ، صَلَّى اللَّـهُ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ، وَمَنِ اقْتَفَى أَثَرَهُمْ وَسَارَ عَلَى نَهْجِهِمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ فَيَا أَيُّهَا الْإِخْوَةُ الْمُسْلِمُونَ:
الْعُنْصُرُ الثَّالِثُ: مَنْفَعَةُ صُحْبَةِ الصَّالِحِينَ
رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "خَيْرُ الْأَصْحَابِ عِنْدَ اللَّهِ خَيْرُهُمْ لِصَاحِبِهِ".
وَمُقْتَضَى ذَلِكَ أَنَّ الصَّاحِبَ الْمُخْلِصَ يُحِبُّ إِيصَالَ الْخَيْرَ إِلَى صَاحِبِهِ، وَيْسَعَى إِلَى نَفْعِهِ بِكُلِّ الْوَسَائِلِ الْمُتَاحَةِ بِيَدِهِ، فَعَلَى مُسْتَوَى الدُّنْيَا يَكُونُ الصَّاحِبُ وَاقِفاً إِلَى جَانِبِ صَاحِبِهِ فِي مِحَنِهِ وَشَدَائِدِهِ، وَيُسَاعِدُهُ عَلَى تَجَاوُزِ الْمَرَاحِلِ الصَّعْبَةِ فِي حَيَاتِهِ.
رَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ، مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى".
وَعَلَى مُسْتَوَى الدِّينِ يَكُونُ الصَّاحِبُ مِرْآةً لِصَاحِبِهِ، يُبَصِّرُهُ بِعُيُوبِهِ، وَيُسَاعِدُهُ فِي إِعَادَةِ تَرْتِيبِ شُؤُونِهِ، لِكَيْ يَبْقَى عَلَى الْمَسَارِ الصَّحِيحِ فِي كُلِّ أَوْقَاتِهِ، بَعِيدًا عَنِ الْمَعَاصِي وَالْمُحَرَّمَاتِ، وَمُتَرَفِّعًا عَنْ كُلِّ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ يُغْضِبُ رَبَّ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتِ.
رَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "اَلْمُؤْمِنُ مِرْآةُ الْمُؤْمِنِ، وَالْمُؤْمِنُ أَخُو الْمُؤْمِنِ، يَكُفُّ عَلَيْهِ ضَيْعَتَهُ وَيَحُوطُهُ".
فَاتَّقُواْ اللَّهَ - أَيُّهَا الْإِخْوَةُ الْمُسْلِمُونَ -، وَاحْرِصُواْ عَلَى صُحْبَةِ الْأَخْيَارِ، تَسْعَدُواْ فِي الدُّنْيَا وَدَارِ الْقَرَارِ.
الختم بالدعاء
اعداد الأستاذ رشيد المعاشي