خطبة مؤثرة عن الدَّيْن

 خطبة مؤثرة عن الدَّيْن

خطبة مؤثرة عن الدَّيْن
خطبة مؤثرة عن الدَّيْن


 خطبة مؤثرة عن الدَّيْن

عناصر الخطبة:

  1. صعوبة وثقل الدين
  2. تحمُّل دين الميت
  3. تهاون الغني في سداد الدين ظلم
  4. فضل انظار المعسر في سداد الدين
  5. قضايا وتنبيهات في الدين


الخطبة الأولى:

 إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:

 فاتقوا الله عباد الله: واعلموا أن التقوى أمر من الله تعالى لعباده فمن عمل بها فاز بالحياة الطيبة في الدنيا وبدار النعيم المقيم في الآخرة.

أما بعد:

 معاشر المومنين والمومنات: إن المال عارية من الله لعباده، جعل الله لهم فيه ملكًا، فلا ينزع من صاحبه إلا برضا نفس، أو طيب عطاء، أو حق ملزم شرعًا، وإن أخذ أموال الناس قرضًا أصل في هم الليل وذل النهار، فمن تخبط في أموال الغير حرم عظيم الأجر، ولو ترقى في أعلى مراتب العطاء والبذل لدين الله؛ روى الإمام أحمد وغيره، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنْ قُتِلْتُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ صَابِرًا مُحْتَسِبًا مُقْبِلًا غَيْرَ مُدْبِرٍ كَفَّرَ اللَّهُ بِهِ خَطَايَايَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنْ قُتِلْتَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ صَابِرًا مُحْتَسِبًا مُقْبِلًا غَيْرَ مُدْبِرٍ كَفَّرَ اللَّهُ بِهِ خَطَايَاكَ» . ثُمَّ إِنَّ الرَّجُلَ لَبِثَ مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنْ قُتِلْتُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَفَّرَ اللَّهُ بِهِ خَطَايَايَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنْ قُتِلْتَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ صَابِرًا مُحْتَسِبًا مُقْبِلًا غَيْرَ مُدْبِرٍ كَفَّرَ اللَّهُ بِهِ خَطَايَاكَ إِلَّا الدَّيْنَ كَذَلِكَ قَالَ لِي جِبْرِيلُ»

 فما بينك وبين الله على المسامحة والغفران، وما بينك وبين الناس على المشاحنة والطلب، فحق الآدمي لا يكفره حتى ولو كان الجهاد والشهادة في سبيل الله؛ وإنما يكفره المسامحة أو الأداء.


 عباد الله:  هذه رسالة لكل مدين أن يخلص أمره قبل النقلة من هذه الحياة الدنيا؛ لأن الدين كما أن له مطالبة في الدنيا مقضية بالدرهم والدينار، فإن له مطالبة في الآخرة بالحسنات والسيئات، أخرج الإمام أحمد في مسنده، عن جابر بن عبدالله رضي الله عنه قَالَ: تُوُفِّيَ رَجُلٌ فَغَسَّلْنَاهُ، وَحَنَّطْنَاهُ، وَكَفَّنَّاهُ، ثُمَّ أَتَيْنَا بِهِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي عَلَيْهِ، فَقُلْنَا: تُصَلِّي عَلَيْهِ؟ فَخَطَا خُطًى، ثُمَّ قَالَ: «أَعَلَيْهِ دَيْنٌ؟» قُلْنَا: دِينَارَانِ، فَانْصَرَفَ، فَتَحَمَّلَهُمَا أَبُو قَتَادَةَ، فَأَتَيْنَاهُ، فَقَالَ أَبُو قَتَادَةَ: الدِّينَارَانِ عَلَيَّ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «حَقُّ الْغَرِيمُ، وَبَرِئَ مِنْهُمَا الْمَيِّتُ؟» قَالَ: نَعَمْ، فَصَلَّى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ بِيَوْمٍ: «مَا فَعَلَ الدِّينَارَانِ؟» فَقَالَ: إِنَّمَا مَاتَ أَمْسِ، قَالَ: فَعَادَ إِلَيْهِ مِنَ الْغَدِ، فَقَالَ: لَقَدْ قَضَيْتُهُمَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْآنَ بَرَدَتْ عَلَيْهِ جِلْدُهُ»

فهذا صحابي له شرف الصحبة، فلم تشفع له في إسقاط دينارين، فحبس في قبره حتى أتى أبو قتادة يسدد عنه لتبرد جلدته، فمن لك بمثل أبي قتادة أيها المدين؟!


عباد الله: هناك أصناف من الناس يستديون وفي نيتهم مطل الدين مع قدرتهم على سداده، وهذاظلم، فمن أخذ أموال الناس، وهو قادر على الأداء والوفاء، فلم يفعل؛ فهو ظالم متعدٍّ، يستحق العقوبة من الدائن من وجهين، ففي المستدرك على الصحيحين للحاكم رحمه الله، عَنْ عَمْرِو بْنِ الشَّرِيدِ، عَنْ أَبِيهِ رضي الله عنهما، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَيُّ الْوَاجِدِ يُحِلُّ عِرْضَهُ وَعُقُوبَتَهُ» ، وروى الامام البخاري في صحيحه، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَطْلُ الغَنِيِّ ظُلْمٌ»

 يقول عبدُاللهِ بنُ المُبارَكٍ: يُحِلُّ عِرْضَه يُغلَّظُ له؛ أي: بالقوْلِ، وعُقوبَتَه يُحبَسُ له. والله من ورائه بالمرصاد، فعن أبي هريرة قال: قال صلى الله عليه وسلم: ((مَن أخَذَ أمْوالَ النَّاسِ يُرِيدُ أداءَها أدَّى اللَّهُ عنْه، ومَن أخَذَ يُرِيدُ إتْلافَها أتْلَفَهُ اللَّهُ))[4].


أخي الكريم، لا تفتح على نفسك بابًا من الدَّيْن إلا عندما تُغلَق في وجهك كل الأبواب، ولم تجد بدًّا من طَرْق هذا الباب، فإذا فعلت فلا تريق ماء وجهك، ولا تأخذ إلا من الكرام أصحاب الرحمة والدِّيْن؛ لأنه يحفزهم بشارتان من الله، أخبر بهما الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم:


البشارة الأولى:

 ما رواه الامام احمد في مسنده، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا فَلَهُ بِكُلِّ يَوْمٍ مِثْلِهِ صَدَقَةٌ» ، قَالَ: ثُمَّ سَمِعْتُهُ يَقُولُ: «مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا فَلَهُ بِكُلِّ يَوْمٍ مِثْلَيْهِ صَدَقَةٌ» ، قُلْتُ: سَمِعْتُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ تَقُولُ: «مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا فَلَهُ بِكُلِّ يَوْمٍ مِثْلِهِ صَدَقَةٌ» ، ثُمَّ سَمِعْتُكَ تَقُولُ: «مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا فَلَهُ بِكُلِّ يَوْمٍ مِثْلَيْهِ صَدَقَةٌ» ، قَالَ لَهُ: «بِكُلِّ يَوْمٍ صَدَقَةٌ قَبْلَ أَنْ يَحِلَّ الدَّيْنُ، فَإِذَا حَلَّ الدَّيْنُ فَأَنْظَرَهُ فَلَهُ بِكُلِّ يَوْمٍ مِثْلَيْهِ صَدَقَةٌ»

 

البشارة الثانية: 

ما رواه الامام مسلم في صحيحه، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُتْبَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " كَانَ رَجُلٌ يُدَايِنُ النَّاسَ، فَكَانَ يَقُولُ لِفَتَاهُ: إِذَا أَتَيْتَ مُعْسِرًا فَتَجَاوَزْ عَنْهُ، لَعَلَّ اللهَ يَتَجَاوَزُ عَنَّا، فَلَقِيَ اللهَ فَتَجَاوَزَ عَنْهُ "

 

نفعني الله واياكم بالقرآن المبين وبحديث سيد الأولين والآخرين صلى الله عليه وسلم وأجارني واياكم من عذابه المهين وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.


الخطبة الثانية:

 الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشانه، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبدُه ورسولُه، الداعي إلى رضوانه، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه، ومن اقتفى أثره، واهتدى بهداه إلى يوم الدين، وسلم تسليمًا كثيرًا، أما بعد:


عباد الله: يحسن في هذا المقام أن نُنبِّه على قضايا لعلَّها ضابطة لبعض تصرُّفات الدائن والمدين:


القضية الأولى: 

 صاحب المال له كل الحق في مطالبة غريمه، فلا يلام مع إنسان له وجد ويسار، روى الامام البخاري في صحيحه، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ كَعْبٍ رضي الله عنهما، أَنَّهُ تَقَاضَى ابْنَ أَبِي حَدْرَدٍ دَيْنًا كَانَ لَهُ عَلَيْهِ فِي المَسْجِدِ، فَارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُمَا حَتَّى سَمِعَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي بَيْتِهِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمَا حَتَّى كَشَفَ سِجْفَ حُجْرَتِهِ، فَنَادَى: «يَا كَعْبُ» قَالَ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: «ضَعْ مِنْ دَيْنِكَ هَذَا» وَأَوْمَأَ إِلَيْهِ: أَيِ الشَّطْرَ، قَالَ: لَقَدْ فَعَلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: «قُمْ فَاقْضِهِ» ، ولم ينكر صلى الله عليه وسلم على كعب.


القضية الثانية: 

لا يلزم الأبناء سداد دَيْن أبيهم من مالهم الخاص إلا من باب البر والإحسان لا اللزوم، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "دين الميت لا يجب على الورثة قضاؤه؛ لكن يُقضى من تركته"


القضية الثالثة: 

 من كان عليه دين وعوز؛ لم يجز له التبرُّعات التي تؤثر في السداد؛ لأن الدَّيْن أولى بذلك؛ روى النسائي في سننه عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قال: جَاءَ رَجُلٌ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ بِهَيْئَةٍ بَذَّةٍ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَصَلَّيْتَ؟» قَالَ: لَا، قَالَ: «صَلِّ رَكْعَتَيْنِ، وَحَثَّ النَّاسَ عَلَى الصَّدَقَةِ»، فَأَلْقَوْا ثِيَابًا فَأَعْطَاهُ مِنْهَا ثَوْبَيْنِ، فَلَمَّا كَانَتِ الْجُمُعَةُ الثَّانِيَةُ جَاءَ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ، فَحَثَّ النَّاسَ عَلَى الصَّدَقَةِ، قَالَ: فَأَلْقَى أَحَدَ ثَوْبَيْهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «جَاءَ هَذَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ بِهَيْئَةٍ بَذَّةٍ، فَأَمَرْتُ النَّاسَ بِالصَّدَقَةِ، فَأَلْقَوْا ثِيَابًا، فَأَمَرْتُ لَهُ مِنْهَا بِثَوْبَيْنِ، ثُمَّ جَاءَ الْآنَ فَأَمَرْتُ النَّاسَ بِالصَّدَقَةِ، فَأَلْقَى أَحَدَهُمَا»، فَانْتَهَرَهُ وَقَالَ: «خُذْ ثَوْبَكَ»

 

القضية الرابعة: 

 يكفي في معرة الدَّيْن ما ورد في الحديث الذي رواه الشيخان البخاري ومسلم عن عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ رضي الله عنه، أَنَّ أمنا عَائِشَةَ رضي الله عنها، زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَتْهُ، أَنَّ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَدْعُو فِي الصَّلَاةِ «اللهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ، اللهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْمَأْثَمِ وَالْمَغْرَمِ» قَالَتْ: فَقَالَ لَهُ قَائِلٌ: مَا أَكْثَرَ مَا تَسْتَعِيذُ مِنَ الْمَغْرَمِ يَا رَسُولَ اللهِ فَقَالَ: «إِنَّ الرَّجُلَ إِذَا غَرِمَ، حَدَّثَ فَكَذَبَ، وَوَعَدَ فَأَخْلَفَ»، فمن منا يرضى بعار الكذب والتهمة بالخيانة من أجل عَرَضٍ من الدنيا.


 اللهم إنا نعوذُ بكَ منَ الهمِّ والحزَنِ، ونعوذُ بكَ منَ العجزِ والكسلِ، ونعوذُ بكَ منَ الجُبنِ والبخلِ، ونعوذُ بكَ مِن غلبةِ الدَّينِ، وقهرِ الرجالِ.

اللَّهُمَّ لا تَدَعْ لَنا ذَنْبًا إِلَّا غَفَرْتَهُ، وَلا هَمًّا إِلَّا فَرَّجْتَهُ، وَلا كَرْبًا إِلَّا نَفَّسْتَهُ، وَلا مَيْتًا إِلَّا رَحِمْتَهُ، وَلا مَرِيضًا إِلَّا شَفَيْتَهُ، وَلا دَيْنًا إِلَّا قَضَيْتَهُ.

اللهم أنتَ الأولُ الذي ليسَ قبلكَ شيء، وأنتَ الآخرُ الذي ليسَ بعدكَ شيء، وأنتَ الظاهرُ فليسَ فوقكَ شيء، وأنت الباطنُ فليسَ دونكَ شيء، اقْضِ عنا الدَّيْنَ، وأغْنِنا من الفقرِ.

الختم بالدعاء ..

Comments