خطبة حول ظاهرة شهادة الزور وخطرها على المجتمع
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي منع الناس من شهادة الزور، ومنح على شهادة الحق الثواب والأجور، وأشهد أن لا إله إلا الله التواب الغفور، قرن بين شهادة الزور وعمل وعبادة الأوثان فقال: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ}، وأشهد أن سيدنا محمدا رسوله وعبده الشكور، شهادة نزداد بها من الاقتداء به في جميع المسائل والأمور، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه الذين هم في الجهاد الأسود والصقور، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى نهاية الأزمان والدهور.
أما بعد فيا أيها الإخوة المؤمنون؛ أوصيكم ونفسي أولا بتقوى الله وطاعته.
قد قدمنا لكم في الجمعة الماضية ظاهرة الديون التي لم ترد لأهلها وضررها بالمجتمع، في إطار التبليغ من أجل الحياة الطيبة؛ لأنه لا حياة طيبة إلا بالحلال الطيب؛ يقول الله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً}؛ ويقول تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ}
فتعالوا بنا اليوم لنكشف الستار عن ظاهرة أخرى ضررها بالحياة الطيبة جسيم ويجب محاربتها بالتبليغ والتبيين، وهي شهادة الزور، وقد امتلأت بها المؤسسات والأسواق، وفتكت بالممتلكات والأرزاق، ولوثت في المجتمع النفوس والأذواق، وأفسدت بوسائل الإعلام السلوك والأخلاق؛ لقد ضربت بأطنابها في معاملاتنا، ولها جذور وفروع وثمار في علاقاتنا، نعيش مرارتها في واقعنا، ونشعر بحرارتها في مجتمعنا؛ يمارسها محترفون، ولها سماسرة وزبائن، تعرض ملفاتها في المزادات السرية، مع اختلاف الأثمان حسب وزنها وقيمتها، من دراهم معدودة، إلى ملايين غير محدودة.
أيها الإخوة المؤمنون؛ إن الشهادة هي معيار لتمييز الحق من الباطل، وميزان يفصل الدعاوى الصادقة من الكاذبة، فهي بمنزلة الروح للحقوق، فالله أحيا النفوس بالأرواح الطاهرة وأحيا الحقوق بالشهادة الصادقة، وهي ضرورية لقيام الحياة الاجتماعية ولإصلاح ما يصحبها من أحداث وتصرفات، ووقائع ومعاملات، واتصالات وعلاقات؛ لقد أمر الله تعالى بإقامتها لله دون خوف ولا طمع فقال: {وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ}؛ فيجب إقامتها ولو على النفس، أو أقرب الأقربين، قال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ}، ومدح القائمين بها فقال تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ}؛ لأنها أساس لإثبات الحدود، وطريق لإظهار الحقوق، فالواجب إقامتها عن مشاهدة وعيان، وعن علم صحيح، وبيان واضح، قال تعالى: {إِلا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}، ويقول عز وجل حكاية عن إخوة يوسف: {وَمَا شَهِدْنَا إِلا بِمَا عَلِمْنَا}؛ لأنهم يعلمون أن الشهادة لا يجوز أن تكون إلا عن علم صحيح واضح، ورُوي عن ابن عباس قال: «سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الشهادة فقال للسائل: هل ترى الشمس؟ قال: نعم، قال: على مثلها فاشهد أو دع«
وفي إقامة الشهادة أربعة أحكام: وجوب التحمل، ووجوب الأداء، وتحريم الكتمان، وتحريم الزور.
- أما وجوب التحمل فإن من دُعي إلى الشهادة على عقد أو تصرف أو حدث وجب عليه أن يتحمل تلك الشهادة، وهو فرض كفاية مثل صلاة الجنازة فإن قام به البعض سقط عن الباقين وإلا أثم الجميع؛ والله تعالى يقول {وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا}، ويقول سبحانه في البيع والشراء: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ}، ويقول عز وجل في الطلاق: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُواْ ٱلشَّهَٰدَةَ لِلَّهِ}(12)، ويقول عز وجل في شأن تسليم الأموال والودائع: {فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ}.
- • وأما وجوب الأداء فهو فرض لقوله عز وجل في الآية السابقة: {وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا}، ومن امتنع عن الأداء فهو آثم لأن ذلك كتمان الشهادة؛ فإن كان تحمل الشهادة فرض كفاية؛ فإن أداءها هو فرض عين على من طلبت منه؛ قال الشيخ خليل في مختصره: "وَالتَّحَمُّلُ إِنِ افْتُقِرَ إِلَيْهِ فَرْضُ كِفَايَةٍ وَتَعَيَّنَ الأَدَاءُ"؛ ومما ينبغي التنبيه إليه هنا أن تحمل الشهادة وأداؤها كذلك يجب أن يكون مجانا وبدون مقابل، ومن أخذ مقابل شهادة ثمنا فقد أخذا حراما ولو شهد بالحق؛ لقوله تعالى في الآية السابقة: {وَأَقِيمُواْ ٱلشَّهَٰدَةَ لِلَّهِ}، ويقول سبحانه في الإشهاد على الوصية: {يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ شَهَٰدَةُ بَيۡنِكُمۡ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ ٱلۡمَوۡتُ حِينَ ٱلۡوَصِيَّةِ ٱثۡنَانِ ذَوَا عَدۡلٖ مِّنكُمۡ أَوۡ ءَاخَرَانِ مِنۡ غَيۡرِكُمۡ} إلى أن قال سبحانه: {فَيُقۡسِمَانِ بِٱللَّهِ إِنِ ٱرۡتَبۡتُمۡ لَا نَشۡتَرِي بِهِۦ ثَمَنٗا وَلَوۡ كَانَ ذَا قُرۡبَىٰ وَلَا نَكۡتُمُ شَهَٰدَةَ ٱللَّهِ إِنَّآ إِذٗا لَّمِنَ ٱلآثِمِينَ}؛ ومعناه: لا نشتري به؛ أي: بقولنا في الشهادة عَرَضا من الدنيا، ولا نحابي في شهادتنا أحدا ولو كان ذا قربى، ولا نكتم شهادة علمناها.
- • وأما الكتمان فهو أمر مذموم شرعا، ومبغوض طبعا، يكفي في ذلك قوله تعالى: {وَلَا تَكۡتُمُواْ ٱلشَّهَٰدَةَ وَمَن يَكۡتُمۡهَا فَإِنَّهُۥٓ ءَاثِمٌ قَلۡبُهُۥ}، ولم يحمِّل الله تعالى للقلب إثمَ أي جريمة إلا جريمة كتمان الشهادة، وجريمة التعتيم على الحقيقة؛ لأن الكتمان جرم عظيم والتعتيم إثم كبير؛ "قال المفسرون: ذكر الله تعالى على كتمان الشهادة نوعا من الوعيد لم يذكره في سائر الكبائر، وهو إثم القلب"، قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: «شهادة الزور من أكبر الكبائر وكتمانها كذلك«
• وأما شهادة الزور؛ فهي الجريمة العظمى والطامة الكبرى، وهي شهادة الإنسان على ما لا يعلم، أو شهادته بخلاف ما يعلم، وهي من أكبر الكبائر وأعظم الذنوب، واضحة الأضرار، سيئة الآثار، كثير الأوزار، تُحَوِّل الشهادة عن وظيفتها، فتكون سندا للباطل عوض الحق، وعونا للجور مكان العدل، كيف لا؟ وهي سبب لطمس معالم الإنصاف وطريقٌ لفساد الأحكام، وسبيل لتقويض الأمن والأمان، وأداة للتعتيم والتضليل، قال الله تعالى في صفات عباد الرحمن: {وَٱلَّذِينَ لَا يَشۡهَدُونَ ٱلزُّورَ وَإِذَا مَرُّواْ بِٱللَّغۡوِ مَرُّواْ كِرَاماً}، وروى أبو داود والترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى صلاة الصبح، فلما انصرف قام قائما، فقال: «عُدِلَتْ شهادة الزور بالإشراك بالله» ثلاث مرار، ثم قرأ صلى الله عليه وسلم: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ}»، وروى البخاري ومسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ثلاثاً؟ قالوا: بلى يا رسول الله؛ قال: الإشراك بالله وعقوق الوالدين، وجلس وكان متكئاً، فقال: ألا وقول الزور، قال الصحابة: فمازال يكررها حتى قلنا ليته سكت«
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين أجمعين والحمد لله رب العالمين
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين...
أما بعد فيا أيها الإخوة المؤمنون؛ إن شهادة الزور ليست جريمة واحدة؛ بل هي جريمة مركبة من عدة جرائم، وزور يتشكل من كثير من الأوزار، وكبيرة وفي بطنها عدة كبائر؛ فهي تشتمل على الكذب، وعلى النفاق، وعلى الظلم، وعلى الاعتداء، وعلى أكل أموال الناس بالباطل، وعلى تضليل القضاء، وعلى التعتيم الإعلامي، وغالبا ما تكون مصحوبة في المحاكم بجريمة الرشوة، لأن الذي يشهد ضد الحق لصالح الظلم، لا يفعل ذلك مجانا؛ بل يأخذ مقابل ذلك رشوة تعرضه للعنة العامة؛ فيكون ملعونا في الدنيا من ضميره، ثم ملعونا من المظلوم الذي انتزع منه حقه بزروه ووزره، وفي الآخرة يكون ملعونا من الله ورسوله، روى أبوداود والترمذي عن عبد الله بن عمرو قال: «لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الراشي والمرتشي في الحكم«.
ألا فاتقوا الله عباد الله وأكثروا من الصلاة والسلام على الرسول صلى الله عليه وسلم...
الخطيب الاستاذ عبد الله بنطاهر.